أدب الرحلة.. العالم في راحة اليد

محمد إسماعيل زاهر

يؤكد أنطوان دو سانت أكزوبيري، أن قائد الطائرة من وراء نافذته، يشاهد قرية النمل الإنسانية التي تقع تحت بصره من أعلى، لم يجد وهو يؤلف كتابه اللافت «أرض البشر» أفضل من كائن ملموس ومعروف، النمل، ليعبر به عن موقع الإنسان في العالم. الكتاب ليس في الطيران ولكنك تشعر أنه دعوة للتأمل، وفي قراءة أخرى تستمتع به كأنك تقرأ عملاً ممتازاً في «أدب الرحلات» هذا الذي اتسع أكزوبيري بمفهومه، فالرحلة في كتابه الرائع الآخر «الأمير الصغير» تتجاوز الفهم الضيق لذلك الأدب بوصفه مجرد انطباعات أو مشاهدات لهذا البلد أو ذاك، فأميرنا الطفل الذي لا يمل من السؤال يسرق الكون بأكمله ويختزنه بين كفيه الصغيرين.

هل انتهى أدب الرحلة؟، هل ينضم إلى سلسلة النهايات التي لم نتردد خلال السنوات الماضية عن إعلانها: نهاية الأفكار الكبرى..موت المؤلف..موت الناقد، وإذا كانت هذه النهايات التي صاحبتها إعلانات تنظيرية تتويجاً لإشكاليات عصية داخل كل حقل، أدبي أو فلسفي، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى إعلان وفاة الحقل الذي يعملون فيه، فإن التكنولوجيا الحديثة جاءت ب«عهدها السعيد» ولم يتبقى أمامها أو أمامنا إلا إعلان موت الثقافة، والفارق هنا بين نهاياتنا ونهايات التكنولوجيا، أن الأخيرة فعلية وواقعية وتخلو من التنظير، فالوفاة في حالة التكنولوجيا حقيقية ولا مجال فيها للتراجع. (انظر الواقع الكابوسي لغياب فعالية المثقف التقليدي في مقابل نخبة المؤثرين الآن، لقد رددنا في سنوات سابقة مقولة «موت المثقف» ولكن التكنولوجيا قتلته بالفعل).

  • غياب القيمة

في هذا المناخ أعلن البعض أن التكنولوجيا بما توفره من تقنيات وما أشاعته من هوس بالصورة والحركة قد أجهزت على أدب الرحلات، لم يعد هناك من قيمة ليكتب هذا الأديب أو ذاك الرحالة مشاهداته وانطباعاته عن بلدان العالم المختلفة، لم تعد المسألة تستحق أكثر من هاتف يتجول به أي إنسان في البلد الذي يزوره: يخبرنا عن المطار الذي حط فيه: تنظيمه ونظافته وسوقه الحرة، ثم يأخذ أعيننا إلى فنادق البلد ومطاعمه ومعالمه السياحية ولا مانع من لمحة عن طبيعة شعب هذا البلد ونبذة عن تاريخه... ولكن هل كان أدب الرحلة على هذه الشاكلة في يوم من الأيام؟ هل ما كتبه مشاهير هذا الأدب ليس أكثر أهمية من فيديو على «تيكتوك» أو «إنستغرام»؟ إذا كانت الإجابة بنعم فعلينا جميعاً أن ننتشي بوفاة ذلك الأدب السطحي الساذج التافه، أما إذا كنا نعتقد أن أدب الرحلة أعمق من ذلك فلنبحث عن أسباب أخرى لتراجع هذا الأدب ولننظر ملياً في ترديد البعض أنه مات. «أدب الرحلة» في العمق قوس معرفي أوسع من تلك الكتب المعنونة مباشرة تحت هذا المصطلح. أدب الرحلة ليس كتابات أنيس منصور أو ذكريات هذا الأكاديمي عن البلد الذي درس فيه، أو ما عاشه أحد الكتاب في بلد ما، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الكتابات لا تخلو من إمتاعية وجمالية وكثير من المعلومات.

  • مظلة

«أدب الرحلات» مظلة تبدأ من المشي وفلسفته، هل هناك من درس العلاقة بين شعر وليم ووردزورث والمشي، فشاعرنا قطع على قدميه خلال حياته مئة وخمسة وسبعين ألف ميل، هل نستحضر نيتشه هنا ونحن نتحدث عن المشي؟ وهل المشي نوع من الرحلة؟

مظلة الرحلة متسعة، فعلوم بأكملها صاغها رحالة: الاستشراق والأنثروبولوجي، وجزء من أدب ما بعد الكولونيالية، وهذه الحقول بالذات قسمت العالم، ورفعت من شعوب وأدنت أخرى، ورسمت صوراً ذهنية عن شعوب ثالثة، وتشكل هؤلاء الرحالة من علماء وأدباء وفنانين تشكيليين وأيضاً من مغامرين وعملاء استخبارات وباحثين عن الآثار. كان للرحلة مجتمعها الخاص ونتائجها الأخطر من مجرد انطباعات عابرة أو مشاهدات سريعة، تحولت في حد ذاتها إلى منتج معرفي وأدبي من العيار الثقيل، وخدمت العلم أحياناً والاستعمار في أحيان أخرى، ومهدت للتآخي بين البشر وأيضاً أشعلت الخلافات بينهم.

وماذا عن ما يمكنه قراءته داخل كتابات الرحالة أنفسهم؟ كيف نقيّم كتابات ابن فضلان وابن جبير وابن بطوطة والبيروني وناصر خسرو وعبد اللطيف البغدادي؟ هل أفادونا في الرحلة وحسب أم تقاطعوا مع علوم كثيرة؟ وماذا نفعل مع كتابات آباء نهضتنا العربية والذين جعلتهم الرحلة يسألون «لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟»

إذا اعتبرنا أن كل رحلة كتابة عن مكان، فهنا سنتورط مع معظم المنتج الأدبي والفكري الذي أبدعه البشر، فلا أدب أو معرفة من دون مكان، كيف أقرأ «قلب الظلام» لجوزيف كونراد من دون الانفعال بالمكان الإفريقي، هل هي رواية أم أدب رحلات؟ وماذا أفعل عندما يأخذني نجيب محفوظ لأتجول في شوارع القاهرة؟ وهل تكتمل خبرتي بالصحراء من دون روايات إبراهيم الكوني؟ وماذا عن ماركيز وتشارلز ديكنز...كلهم كانوا روائيين رحلوا بنا في زوايا وأركان أمكنة تعرفنا إلى أبعادها من خلالهم، وماذا عن مركزية المكان في الشعر العربي، خاصة شعرنا القديم؟ وماذا عن الكتابات الجغرافية شديدة التخصص، هل يعتبر كتاب «شخصية مصر» لجمال حمدان عملاً في علم الجغرافية أم في الرحلات؟

  • لحظة تحرر

لنترك كل هذا الفضاء الذي يبدو للبعض أنه أوسع بكثير من أفق «أدب الرحلة»، ونعود إلى كتابات معنونة تحت هذا المصطلح. بإمكان أي فيديو أن يصحبك في رحلة في القطار أو الطائرة أو الباخرة، ولكن الأديب وحده هو من يحدثك عن شاعرية الرحيل والخوف من الطائرة ورهبة الإقلاع والأفكار التي تدور في رأسه وهو يجلس متأملاً في عربة قطار سريع، وهو ما نطالعه بدهشة في كتاب «فن السفر» لآلان دوبوتون، يقول: «يندر أن تمر في حياة المرء لحظات تجعله يشعر بالتحرر والانطلاق أكثر من لحظات إقلاع الطائرة وتسلقها سلم السماء»، يلفت إلى أن شاشات المطار تغوي المخيلة، وتذكرنا برواية كوزموبوليتانية كتبت على مهل ولا نهاية لها، في كل صفحات الكتاب هناك ما بإمكانه أن يستوقفك ويدفعك لكي تفكر وتمسك بالقلم، إذا كنت من هواة قراءة الكتاب الورقي، لتخط ملاحظة أو تدلي برأي.

الرحلة مع دوبوتون تتحول إلى فلسفة: هي كل نزوع إلى الخارج في مقابل الداخل المتمثل في البيت، الرحلة ظاهر..حركة..توتر..انطلاق...سعادة..بحث عن الذات..فضول..شغف. يتأمل دوبوتون في فكرة الترقب والانتظار في الأماكن المخصصة للسفر، يحدثنا عن بهجة الطبيعة وفرحة اللوحات الإرشادية وما يفعله فينا استكشاف المكان الجديد، هذا الاستكشاف هو سرد متواصل من القصص والحكايات ومتابعة مستمرة لفعل التفكير من منظور مختلف.

  • بهجة

الرحلة فلسفة عصية على النهاية، فالبشر لن يملوا يوماً من السفر، ومن كتابة إحساسهم بالمكان، وهذا الإحساس ليس مجرد نقل أوتوماتيكي لطبوغرافيته أو مجرد انطباعات لحظية، أو صور فوتوغرافية أو متحركة أو تعبير سطحي أو تافه، فالكاميرا قد تصور ظاهر الرحلة والكلمات قد تكون خلابة، ولكن ما يدعو إلى التوقف والروية وما يكمن في الروح وما يستقر في الوجدان وما يصنع البهجة وما يمنحنا المسرة يتعلق بالأدب وحده.

Provided by SyndiGate Media Inc. (Syndigate.info).

2024-05-20T19:06:31Z dg43tfdfdgfd